مدينة طرسوس ودورها في التاريخ العربي الإسلامي (172-354 هـ -788-965 م كتاب جديد للدكتورة سناء عبد الله عزيز الطائي
عرض ومراجعة: الاستاذ زياد عبد الوهاب النعيمي
مركز الدراسات الاقليمية -جامعة الموصل
مدينة عتيقة تعبق بتراث أنساني ، معالمها تحكي عن قصص علمها ،وسماؤها تحكي عن صمودها وبطولتها ،وترابها يتذكر كل انتصاراتها و كذلك الظلم الواقع عليها حتى سقوطها .
التاريخ حين يبدأ بالكتابة عنها يقف طويلا ليتأمل عظمتها وروحها وإنسانها ، تلك هي طرسوس مسقط رأس بولس الرسول ، المعلم الذي درس اللاهوت ،وعلمه في طرسوس وكان من مضطهدي الكنيسة، لكنه اعتنق المسحية وتم تعميده في نهر بردى على أيدي حنانيا،وراح يبشر بها في دمشق وانتقل يعلم حتى سنة 67 حين انتقل إلى روما فاعتقل واعدم هناك ، ومدينة طرسوس كما يذهب بعض أصحاب الرأي أنها مدينة الفتية أصحاب الكهف، باعتبارها احد الفرضيتين في وجودهم فيها على رأي بعض العلماء ، المكان الذي عاش فيه أصحاب الكهف أولئك الفتية الذين ذكرهم الله عز وجل في سورة الكهف في الآية(18) بقوله "أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الكَهْفِ والرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَباً * إِذْ أَوَى الفِتْيَةُ إِلَى الكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَآ آتِنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَداً * فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الكَهْفِ سِنِينَ عَدَداً "
إنها مدينة الزهاد والعباد ومدينة الثغور ،مدينة كان لها دور عسكري واقتصادي وسياسي مشرف بسبب موقعها وجهادها ودورها المتميز الذي حظيت به من خلال تاريخ اتسم بالمواقف البطولية لأهلها ، طرسوس هذه المدينة المضمخة بعبق الحضارة والتراث، لم يتناولها إلا قلة من الباحثين العرب وحتى في تناولهم لها لم يعطوا هذه المدينة ماتستحق ، لذلك نجد أن هذه المدينة تتعطش لمن يكتب عنها وعن بطولاتها ويؤرخ لمرحلة تاريخية مهمة عاشتها ، فأثرت في التاريخ الإسلامي وتأثرت بايجابيته وتطوره ،كان لابد من وجود نهج تاريخي أكاديمي تنطلق منه هذه المدينة لتبقى شاخصة في الإبصار ناظرة للوجوه حين يكتب عنها أستاذا أو باحثا عربيا ، عن تاريخها نقف عند انجازاتها،وتاريخها الطويل،وحين تبدع سطور الباحثين في الكتابة عنها نجد أن هذا المنجز التاريخي بدا واضحا أكثر فأكثر للاستعانة به والتا كيد على أهمية طرسوس .
من هذه الأهمية وعند هذه النقطة بالتحديد كان الانجاز واضحا في تناول تاريخ هذه المدية الإسلامية لفترة تاريخية مهمة من حياتها، وهذا الانجاز العلمي والأكاديمي تحقق من خلال الكتاب الموسوم مدينة طرسوس ودورها في التاريخ العربي الإسلامي للباحثة الدكتورة سناء عبدالله عزيز الطائي التدريسية في مركز الدراسات الإقليمية في جامعة الموصل التي كتبت فأبدعت ،ووثقت فأنجزت تاريخا مهما لمدينة أسلامية اسمها طرسوس،مدينة الفكر والعلم والجهاد .
تضمن الكتاب أربعة فصول و تقديم وخاتمة إضافة إلى الملاحق.
طرسوس مدينة الثغور الشامية
أشارت الباحثة في الفصل الاول من الكتاب الى مدينة طرسوس بوصفها مدينة الثغور الشامية وذكرت أن اسم طرسوس قد تم ذكره في الكتب السماوية مثل التوراة التي ورد ذكرها فيه باسم اسبوس وذكرت في الإنجيل باسم ارسوس، وتفيد الباحثة الى أن اسم طرسوس هي من الأسماء المتداولة والأكثر شيوعا لدى جمهور المؤرخين ، و أن مدينة طرسوس تختلف عن مدينة طرطوس التي تقع في بلاد الشام وتشرف على البحر المتوسط قرب المرقب وعكا.
تقع مدينة طرسوس في قيليقيا وتبعد حوالي 12 ميلا عن البحر المتوسط وعن جبال طوروس ، وتذكر الباحثة أن مدينة طرسوس كان لها أهمية قبل الإسلام ، جدد عمارتها الإمبراطور الأشوري سنحاريب سنة 704-861 ق.م ، وفي الزمن الروماني انشىء إقليم قيليقيا فاتخذت طرسوس مقرا للحاكم أوغسطين ، وتذكر الباحثة أن المدينة ظلت تحت الحكم الروماني حتى الفتح العربي الإسلامي لبلاد الشام ، اما اهميتها في الزمنين الراشدي والأموي ، فتذكر الباحثةة إنها كانت خط الدفاع الأول وكان المسلمون يمرون بها عند حملاتهم الى بلاد الروم البيزنطينيين، وعندما قام معاوية بن أبي سفيان سنة 645 ميلادية بفتح عمورية وجد الحصون بين أنطاكية وطرسوس خالية من الناس لذلك قام بإبقاء نفر من أهل الشام والجزيرة وقنسرين كحامية إلى حين عودته.
وتضيف الباحثة أن طيلة حكم الخلافة الأموية كانت طرسوس من المواقع المهمة لاسيما أن المسلمين كانوا يمرون بها ، بهدف إبقاء هذا الدرب تحت إشراف قواتهم وحمايتهم .
في المبحث الثاني من الفصل الأول تحدثت الباحثة عن طرسوس مدينة الثغور الشامية وعرفت الثغور بأنها كل موضع قريب من ارض العدو ، و باتفاق البلدانيين فان الثغور تنقسم الى عدة اقسام منها الثغور الشامية والثغور الجزرية والثغور البكرية ، وتؤكد أن هذا التقسيم المعمول به إنما هو تقسيم جغرافي استحدث لإغراض عسكرية وإدارية في أن واحد ، وتشير الى أن الثغور الجزرية هي ثغور أموية اما الثغور الشامية فهي عباسية
في الفقرة اللاحقة عرفت العواصم بأنها في الخط الثاني للدفاع عن الثغور التي يعتصم بها المسلمون ، فقد نشأت لتعصم الثغور وتمدهم بوسائل القوة والمنعة ، و أن استحداثها كان لضرورة عكسرية وإدارية ،وتشير الباحثةالى أن المسلمين أدركوا أهمية العواصم والثغور عامة وطرسوس بخاصة ، و أن مدينة طرسوس في الإسلام عرفت باهميتها السوقية والعسكرية والاقتصادية لكونها تتمتع بموقع جغرافي متميز ، واستمرت في تلك الأهمية حتى سقوطها بيد الروم البيزنطينين ، فعلى مضيقها سالت الدماء وعلى وجهها سجل التاريخ إحداثه المهمة ، كما اشارت الباحثة الى الانهار القريبة من طرسوس كنهر البردان ونهر اللامس ونهر سيحان ونهر البذنون وبحيرة بغراس ، كما بينت أهم المدن والثغور المجاورة لها مثل اذنة والمصيصة .
بناء طرسوس : في المبحث الثالث من الفصل الأول أشارت الباحثة إلى بناء مدينة طرسوس حيت أكدت على أن التفكير بالبناء كان في عصر الخليفة المهدي والدليل على ذلك كما تشير الباحثة هو تجهيز المواد والميرة ألا أن عملية البناء لم تتم إلا في عهد الخليفة هارون الرشيد 170-193 هـ ) (678-809) ميلادية ، حيث كانت للرشيد الخبرة الكبيرة في دحر الروم والانتصار عليهم ، وتشير الباحثة الى أن البناء كان بالمواد المحلية وكان الحجر في مقدمة تلك المواد ، ما يعني أن المدينة بنيت لتستمر أكثر ، أما بالنسبة لتخطيط المدينة فقد أشارت إلى الأسوار التي أقيمت فيها وهي نوع من التحصينات والاستحكامات الدفاعية البشرية ولقد مدت مدينة طرسوس على سورين من الحجارة هما السور المحيط والسور المتصل ، و أن جميع ابوابها كانت تفتح في وقت السلم اما في الحرب فالضروة الحربية تستلزم فتح عدد معين منها ، و أن عدد ابواب مدينة طرسوس هي 5 ابواب، تتمتع بحصانة لكونها صنعت من مادة الحديد ، كما تضم المدينة الشوارع والسكك والأسواق والقناطر والدور والمنازل ،أما ويتمتع سكانها بدرجة عالية من الأخلاق الحميدة والنفوس السمحة فضلا عن محبتهم للغريب ، واهم سكانها هم العرب والجراجمة وهم ينتمون إلى مدينة جرجومة الواقعة على جبل اللكام ويعودون إلى أصول فارسية حيث قدموا مع سيف بن ذي يزن ، كذلك الكرج جيب من النصارى و الفرس واليونان واليهود.
الدور الجهادي الحربي لطرسوس
تشير المؤلفة في الفصل الثاني من الكتاب إلى الدور الجهادي الحربي لمدينة طرسوس ، حيث بدا العرب المسلمون في الفتوحات في منطقة الثغور الشامية في العهد الراشدي وكان ذلك بالتحديد في زمن الخليفة الراشد عمر بن الخطاب والخليفة عثمان بن عفان ، وعندما ألت الخلافة إلى بني أمية قاموا بنقل مركز الخلافة من الحجاز الى الشام ، وتذكر المؤلفة أن الثغور الشامية شهدت نصرا مهما هو فتح طرسوس بقيادة جنادة بن ابي امية وقد عد هذا تطورا مهما على صعيد تامين الثغور ، وعن الدور الجهادي لمدينة طرسوس فتذكر المؤلفة الى أن دور المدينة ظهر بعد بنائها واستقرار الناس فيها من كل اقاليم الخلافة ، و طرسوس نفرت في احوال كثيرة لنجدة اخواتها من المدن المجاورة وتحقق لهم النصر فيها ، و تشير المؤلفة الى أن طرسوس كانت قاعدة للحملات الصليبية وهي حملة الصوائف التي تكون في فصل الصيف والشواتي التي تكون في الشتاء ، و أن اغلب الحملات التي كان العرب يقومون بها هي من الصوائف ولم يقم العرب بشن الشواتي إلا في الحالات الضرورية جدا ، كما غلب عليها أن كانت حملات برية وذلك نتيجة الضعف الذي لحق بالأسطول الإسلامي .
في المبحث الثاني من الفصل الثاني أشارت الباحثة الى الدور البحري لطرسوس ، حيث كان لها دورا لا يقل أهمية عن الدور البري مما يدل على أن العرب ركبوا البحر وعرفوا فنون القتال ونشبت الكثير من المعارك الحربية منذ عهد الراشدين بالبحر، وتشير المؤلفة ألى أن طرسوس كان لها دورا في العصر العباسي في الدفاع عن سواحل مصر من غارات الفاطميين. ، وبذلك فأن أسطول طرسوس حقق انتصارا مهما واخذ على عاتقه حماية سواحل مصر،وقد توالت انتصارات الأسطول البحري في طرسوس بعد أن واجه نكبات، وبقيت طرسوس قاعدة بحرية مهمة مثلما هي قاعدة برية حتى سقطت بيد نقفور سنة 965 م-453 هجرية .
الحياة العلمية في مدينة طرسوس
تناولت الباحثة في الفصل الثالث من الكتاب الحياة العلمية في مدينة طرسوس، حيث اشارت إلى أن الموقع الجغرافي للمدينة كان له أهمية في تكوينها الحضاري والثقافي وذلك لوقوعها في نهاية الجزيرة وبلاد الشام وعلى مجمع خطوط مدن الثغور حيث كان هذا العامل كفيلا بتنوع معارفها وعلومها ،كذلك فان عامل الاستقرار السياسي من اهم العوامل التي ادت الى ازدهار الحياة العلمية فيها ، اذ استطاعت الخلافة العباسية أن تحافظ على وحدة البلاد التي كانت تابعة لها بصورة عامةفقصدها الكثير من المثقفين والقراء والمحدثين والفقهاء وطلاب العلم ولم يضعف دورها الابعد أن دب الضعف في الدول العباسية ، وفي فقرة لاحقة تشير الباحثةة الى عدد من العوامل الاقتصادية ،التي ساعدت على ازدهار الحياة الاقتصادية و العلمية في طرسوس وكذلك العوامل الدينية والزراعة والصناعة والتجارة ، اما المبحث الثاني من الفصل الثالث فتشير الباحثة فيه الى أن طرسوس كان لها مراكز علمية مثل جامع طرسوس الذي لا يقتصر على الصلاة ، بل هو مركز لدراسة العلوم الدينية وقراءة القران
ومن المراكز العلمية أيضا، الربط التي كانت في البداية مجرد حصون تقام في الجهات الأكثر تعرضا لغارات العدو ، فضلا عن الحلقات الدراسية مثل حلقة أبو بكر الأصفهاني في جامع طرسوس ، وأخيرا الكتاب والمؤذنون.
في المبحث الثالث تتناول الباحثة العلوم التي درست في طرسوس والتي اشتملت على العلوم، الدينية كالقران الكريم وعلوم الحديث ، والفقه والقضاء ، إما بالنسبة للعلوم الإنسانية فيأتي في مقدمتها اللغة العربية ، الشعر والخطبة .
ظهرت بوادر التدوين التاريخي في طرسوس مع قيام الأمصار العربية الإسلامية الأولى ، ثم تطورت في أعقاب قيام الكيانات السياسية العربية ، حيث تحمس الحكام على تعزيز مكانة دولتهم وإبراز نشاط سكانها .
سقوط مدينة طرسوس مدينة الثغور الشامية
354هـ-965 م
الفصل الرابع والأخير من الكتاب جاء ليلسط الضوء على نهاية مدينة الثغور الشامية ، وسقوطها في اشارة واضحة الى أن هناك عوامل ساعدت ودفعت الى مثل هذا السقوط ،في المبحث الاول من الفصل الرابع تناولت الباحثة اسباب السقوط، من خلال الوضع السياسي المتردي للخلافة العباسية ،من خلال تسلط العنصر الاجنبي ، ومن ثم تفكك الدولة و ظهور الامارات المحلية كالامارة الطولونية والحمدانية والهجمات المتكررة على المدينة نفسها ،وهذه العوامل ادت الى ضعف الدولة وسقوط هيبتها شيئا فشيئا .
في المبحث الثاني من الفصل الرابع تناولت الباحثة الاسباب التي يمكن أن نصفها بالمباشرة في سقوط طرسوس والعوامل التي ادت الى سقوطها ، فالموقع السوقي لها ياتي في مقدمة الاسباب ، ومن ثم الدوافع التاريخية، والدور الحربي والجهادي للمدينة ، ومن ثم التوغل الاجنبي في بلاد الشام ،وتحقيق المكاسب الثقافية والاقتصادية ، ونهوض الدولة البيزنطية .
في المبحث الثالث من الفصل الرابع تشير الباحثة الى كيفية السيطرة على طرسوس من خلال السيطرة على اذنة والمصيصة .
في المبحث الرابع من الفصل الرابع تشير الباحثة الى النتائج التي ترتبت على هذا السقوط من خلال الخذلان الذي اصاب الثغور الاخرى حيث سقطت هي الاخرى واحد تلو الاخرى ، اما النتيجةي الثانية فهي التوغل البيزنطي في الاراضي العربية والاسلامية والوصول الى امد ومحاصرتها حتى قاربوا الوصول إلى نصيبين ، وهذا ماجعل طرسوس من أهم القواعد العسكرية للدولة البيزنطية ، وهذه النتيجة رتبت تسللا منطقيا من خلال حرمان العرب من أهم القواعد البحرية في طرسوس .
انتهى الكتاب بالخاتمة ، وملاحق تحوي خرائط للمدينة محل البحث ،وقائمة مصادر ومراجع
اهمية الكتاب
الكتاب غني بالمعلومة التاريخية ، وغزير بالإحداث التي وقعت في مدينة إسلامية كان لها الدور العلمي والحربي في إرساء الدعوة والدولة الإسلامية ،وكانت محط لاهتمام المسلمين ، يمثل هذا الكتاب إضافة نوعية ونادرة لمدينة مقدسة وجهادية ، وظفتها الباحثة بأسلوب رشيق وعلمي وبطريقة أكاديمية واضحة بموضوعية وحياد، دون إسهاب.
الكتاب اختزال تاريخي لفترة طويلة من تاريخ العرب والمسلمين ، وان تناول هذه المدينة لدليل على جهد متميز تندر إليه جهود كثيرة في هذا الاختصاص الواسع .
الكتاب إضافة متميزة للمكتبة العراقية والعربية والإسلامية ، وهو وثيقة تاريخية وعميقة وذات اثر
وهو جهد متميز للباحثة الدكتورة سناء عبدالله عزيز الطائي ، ولمركز الدراسات الإقليمية في جامعة الموصل ،جهدان متميزان قدما لنا كتابا تاريخيا متميزا باحداثة ومعلوماته التاريخية.